فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.معنى إنزال الكتاب:

والإنزالُ النقلُ من الأعلى إلى الأسفل، وتعلُّقه بالمعاني إنما هو بتوسّط تعلّقِه بالأعيان المستتبعة لها، فنزولُ ما عدا الصحفَ من الكتب الإلهية إلى الرسل عليهم السلام والله تعالى أعلم بأن يتلقاها الملَكُ من جنابه عز وجل تلقيًا روحانيًا، أو يحفَظَها من اللوح المحفوظ، فينزِلَ بها إلى الرسل فيُلقِيهَا عليهم عليهم السلام، والمراد {بما أنزل إليك} هو القرآنُ بأسره، والشريعةُ عن آخرها.
والتعبيرُ عن إنزاله بالماضي مع كون بعضِه مُترقَّبًا حينئذ لتغليب المحقَّقِ على المقدَّر، أو لتنزيل ما في شرَفِ الوقوعِ لتحقُّقه منزلةَ الواقع، كما في قوله تعالى: {إِنَّا سَمِعْنَا كتابا أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى} مع أن الجنَّ ما كانوا سمعوا الكتابَ جميعًا ولا كان الجميعُ إذ ذاك نازلًا، وبما أنزل من قبلك التوراةُ والإنجيلُ وسائرُ الكتب السالفة، وعدمُ التعرضِ لذكر من أُنزل إليه من الأنبياء عليهم السلام، لقصد الإيجازِ مع عدم تعلُّقِ الغرَض بالتفصيل حسَبَ تعلقِه به في قوله تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل} الآية. والإيمانُ بالكل جملةً فرضٌ، وبالقرآنِ تفصيلًا من حيث إنا متعبَّدون بتفاصيله فرضُ كفاية، فإن في وجوبه على الكل عَينًا حَرَجًا بينًا، وإخلالًا بأمر المعاش، وبناءُ الفعلين للمفعول للإيذان بتعيُّن الفاعل، والجَرْيِ على سَنن الكِبرياء، وقد قُرئا على البناء للفاعل. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} عطف على الموصول الأول مفصولًا وموصولًا والمروي عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم أنهم مؤمنو أهل الكتاب وحيث إن المتبادر من العطف أن الإيمان بكل من المنزلين على طريق الاستقلال اختص ذلك بهم لأن إيمان غيرهم بما أنزل من قبل إنما هو على طريق الاجمال والتبع للإيمان بالقرآن لاسيما في مقام المدح، وقد دلت الآيات والأحاديث على أن لأهل الكتاب أجرين بواسطة ذلك وبهذا غايروا من قبلهم وقيل التغاير باعتبار أن الإيمان الأول بالعقل وهذا بالنقل أو بأن ذاك بالغيب وهذا بما عرفوه كما يعرفون أبناءهم {أولئك على هدى} [البقرة: 5] حينئذ إشارة إلى الطائفة الأولى لأن إيمانهم بمحض الهداية الربانية {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] إشارة إلى الثانية لفوزهم بما كانوا ينتظرونه أو بأن أولئك من حيث المجموع كان فيهم شرك وهؤلاء لم يشركوا ولم ينكروا، وقيل التغاير بالعموم والخصوص مثله في قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح} [القدر: 4] والتخصيص هنا بعد التعميم للإشارة إلى الأفضلية من حيثية إنهم يعطون أجرهم مرتين وقد يوجد في المفضول ما ليس في الفاضل وفي ذلك ترغيب أهل الكتاب في الدخول في الإسلام، وقال بعضهم إن هؤلاء هم الأولون بأعيانهم وتوسيط العطف جار في الأسماء والصفات باعتبار تغاير المفهومات ويكون بالواو والفاء وثم باعتبار تعاقب الانتقال في الأحوال والجمع المستفاد من الواو هنا واقع بين معاني الصفات المفهومة من المتعاطفين والإيمان الذي مع أولهما إجمالي وعقلي ومع ثانيها تفصيلي ونقلي وإعادة الموصول للتنبيه على تغاير القبيلين وتباين السبيلين وقد يعطف على {المتقين} [البقرة: 2] والموصول غير مفصول لما يلزم على الوصل الفصلي بأجنبي بين المبتدأ وخبره والمعطوف، والمعطوف عليه والتغاير بين المتعاطفين باعتبار أن المراد بالمعطوف عليه من آمن من العرب الذين ليسوا بأهل كتاب وبالمعطوف من آمن به صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب وقد رجح بعض المحققين احتمال أن يكون هؤلاء هم الأولون وتوسط الواو بين الصفات بأن الإيمان بالمنزلين مشترك بين المؤمنين قاطبة فلا وجه لتخصيصه بمؤمني أهل الكتاب والإفراد بالذكر لا يدل على أن الإيمان بكل بطريق الاستقلال فقد أفرد الكتب المنزلة من قبل في قوله تعالى: {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم} [البقرة: 136] ولم يقتض الإيمان بها على الانفراد وبأن أهل الكتاب لم يكونوا مؤمنين بجميع ما أنزل من قبل لأن اليهود لم يؤمنوا بالإنجيل ودينهم منسوخ به وبأن الصفات السابقة ثابتة لمن آمن من أهل الكتاب فالتخصيص بمن عداهم تحكم وجعل الكلام من قبيل عطف الخاص على العام لا يلائم المقام.
وأجيب أما أولًا فبأن المتبادر من السياق الإيمان بالاستقلال لاسيما في مقام المدح وإليه يشير ما جاء أنهم يؤتون أجرهم مرتين والخطاب في الآية للمسلمين بأن يقولوا دفعة ولم يعد فيها الإيمان والمؤمن فلا ترد نقضًا، وأما ثانيًا فلأن إيمان أهل الكتاب بكل وحي إنما هو بالنظر إلى جميعهم فاليهود اشتمل إيمانهم على القرآن والتوراة، والنصارى اشتمل إيمانهم على الإنجيل أيضًا ويكفي هذا في توجيه المروي عمن شاهدوا نزول الوحي ولا يرغب عنه إذا أمكن توجيهه وكون المفهوم المتبادر ثبوت الحكم لكل واحد إن سلم لا يرده ولا يرد أن اليهود الذين آمنوا على عهد نبينا صلى الله عليه وسلم لم يؤمنوا قبل ذلك بالتوراة وإلا لتنصروا لأن فيها نبوة عيسى كما فيها نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ رقد ورد فيها إن الله جاء من طور سيناء وظهر بساعير وعلن بفاران وساعير بيت المقدس الذي ظهر فيه عيسى، وفاران جبال مكة التي كانت مظهر المصطفى صلى الله عليه وسلم لأنا نقول إنهم آمنوا بالتوراة وتأولوا ما دل منها على نبوة المسيح عليه السلام فبعض أنكر نبوته رأسًا ورموه بما رموه وحاشاه وهم الكثيرون وبعض كالعنانية قالوا: إنه من أولياء الله تعالى المخلصين العارفين بأحكام التوراة وليس بنبي وهؤلاء قليلون مخالفون لسائر اليهود في السبت والأعياد ويقتصرون على أكل الطير والظباء والسمك والجراد وهذا الإيمان وإن لم يكن نافعًا في النجاة من النار إلا أنه يقلل الشر بالنسبة إلى الكفر بالتوراة وإنكارها بالكلية مع الكفر بعيسى عليه السلام وربما يمدحون بالنظر إلى أصل الإيمان بها وإن ذموا بحيثية أخرى وكأنه لهذا يكتفى منهم بالجزية ولم يكونوا طعمة للسيوف مطلقًا والقول بأنهم مدحوا بعد إيمانهم بالقرآن بالإيمان بالتوراة نظرًا إلى أسلافهم الذين كانوا على عهد موسى عليه السلام فإنهم مؤمنون بها إيمانًا صحيحًا على وجهها كما أنهم ذموا بما صنع آباؤهم على عهده على ما ينطق به كثير من الآيات ليس بشيء إذ لا معنى لإيتائهم أجرين حينئذٍ والفرق بين البابين واضح.
ثم النسخ الذي ادعاه المرجح خلاف ما ذكره الشهرستاني وغيره من أن الإنجيل لم يبين أحكامًا ولا استبطن حلالًا وحرامًا ولكنه رموز وأمثال ومواعظ والأحكام محالة إلى التوراة وقد قال المسيح ما جئت لأبطل التوراة بل جئت لأكملها وهذا خلاف ما تقتضيه الظواهر وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه، وأما ثالثًا فلأن ثبوت الصفات لمن آمن من أهل الكتاب لا يضرنا لأنها مذكورة في الأول صريحًا وفي الثاني التزامًا، وأما رابعًا فلأنا لا نسلم أن ذلك العطف لا يلائم المقام فنكات عطف الخاص على العام لا تخفى كثرتها على ذوي الأفهام فدع ما مر وخذ ما حلا، وعندي بعد هذا كله أن الاعتراض ذكر والجواب أنثى لكن الرواية دعت إلى ذلك ولعل أهل مكة أدرى بشعابها وفوق كل ذي علم عليم على أن الدراية قد تساعده كما قيل بناءً على أن إعادة الموصول وتوصيفه بالإيمان بالمنزلين مع اشتراكه بين جميع المؤمنين واشتمال الإيمان بما أنزل إليك على الإيمان بما أنزل من قبلك يستدعي أن يراد به من لهم نوع اختصاص بالصلة وهم مؤمنو أهل الكتاب حيث كانوا مطالبين بالإيمان بالقرآن خصوصًا قال تعالى: {وَءامِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدّقًا لّمَا مَعَكُمْ} [البقرة: 1 4] مؤمنين بالكتب استقلالًا في الجملة بخلاف سائر المؤمنين، ثم المتبادر من أهل الكتاب أهل التوراة والإنجيل وحمله على أهل الإنجيل خاصة وقد آمن منهم أربعون واثنان وثلاثون جاءوا مع جعفر من أرض الحبشة وثمانية من الشام لا تساعده رواية ولا دراية كما لا يخفى، والإنزال الإيصال والإبلاغ ولا يشترط أن يكون من أعلى خلافًا لمن ادعاه نحو: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي وصل وحل وإنزال الكتب الإلهية قد مر في المقدمات ما يطلعك إلى معارجه، وذكر أن معنى إنزال القرآن أن جبريل سمع كلام الله تعالى كيف شاء الله تعالى فنزل به أو أظهره في اللوح كتابة فحفظه الملك وأداه بأي نوع كان من الأداء.
وذهب بعض السلف إلى أنه من المتشابه الذي نجزم به من غير بحث عن كيفيته.
وقال الحكماء: إن نفوس الأنبياء عليهم السلام قدسية فتقوى على الاتصال بالملأ الأعلى فينتقش فيها من الصور ما ينتقل إلى القوة المتخيلة والحس المشترك فيرى كالمشاهد وهو الوحي وربما يعلو فيسمع كلامًا منظومًا ويشبه أن نزول الكتب من هذا.
وعندي أن هذا قد يكون لأرباب النفوس القدسية والأرواح الإنسية إلا أن أمر النبوة وراء ذلك وأين الثريا من يد المتناول.
وفعلًا الإنزال مبنيان للمفعول وقرأهما النخعي وأبو حيوة ويزد بن قطيب مبنيين للفاعل وقرئ شإذا {بما أنزل إليك} بتشديد اللام ووجه ذلك أنه أسكن لام {أنزل} ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى اللام فالتقى المثلان فأدغم.
وضمير الفاعل قيل الله وقيل جبريل عليه السلام.
وفي البحر أن فيه التفاتًا لتقدم {مّمّا رزقناهم} فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ولو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا إليك وما أنزلنا من قبلك وأتى سبحانه بصلة ما الأولى فعلًا ماضيًا مع أن المراد بالمنزل جميعه لاقتضاء السياق، والسباق له من ترتب الهدى والفلاح الكاملين عليه ولوقوعه في مقابلة ما أنزل قبل ولاقتضاء {يُؤْمِنُونَ} المنبئ عن الاستمرار والجميع لم ينزل وقت تنزل الآية لأمرين: الأول إنه تغليب لما وجد نزوله على ما لا يوجد فهو من قبيل إطلاق الجزء على الكل والثاني تشبيه جميع المنزل بشيء نزل في تحقق الوقوع لأن بعضه نزل وبعضه سينزل قطعًا فيصير إنزال مجموعه مشبهًا بإنزال ذلك الشيء الذي نزل فتستعار صيغة الماضي من إنزاله لإنزال المجموع، هذا ما حققه من يعقد عند ذكرهم الخناصر وفيه دغدغة كبرى.
وأهون منه أن التعبير بالماضي هنا للمشاكلة لوقوع غير المتحقق في صحبة المتحقق، وأهون من ذلك كله أن المراد به حقيقة الماضي ويدل على الإيمان بالمستقبل بدلالة النص.
وما قيل من أن الإيمان بما سينزل ليس بواجب إلا أن حمله على الجميع أكمل فلذا اقتصر عليه لا وجه له إذ لا شبهة في أنه يلزم المؤمن أن يؤمن بما نزل وبأن كل ما سينزل حق وإن لم يجب تفصيله وتعيينه، وقد ذكر العلماء أن الإيمان إجمالًا بالكتب المنزلة مطلقًا فرض عين وتفصيلًا بالقرآن المتعبد بتفاصيله فرض كفاية إذ لو كان فرض عين أدى إلى الحرج والمشقة والدين يسر لا عسر، وهذا مما لا شبهة فيه حتى قال الدواني: يجب على الكفاية تفصيل الدلائل الأصولية بحيث يتمكن معه من إزالة الشبه وإلزام المعاندين وإرشاد المسترشدين، وذكر الفقهاء أنه لابد أن يكون في كل حد من مسافة القصر شخص متصف بهذه الصفة ويسمى المنصوب للذب ويحرم على الإمام إخلاؤها من ذلك كما يحرم إخلاؤها عن العالم بالأحكام التي يحتاج إليها العامة وقيل لابد من شخص كذلك في كل إقليم وقيل يكفي وجوده في جميع البلاد المعمورة الإسلامية ولعل هذا التنزل لنزول الأمر وقلة علماء الدين في الدنيا بهذا العصر:
أمست يبابًا وأمسى أهلها احتملوا ** أخنى عليها الذي أخنى على لبد

وإلى الله تعالى المشتكى وإليه الملتجى:
إلى الله أشكو إن في القلب حاجة ** تمر بها الأيام وهي كما هيا

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} عطف على {الذين يؤمنون بالغيب} [البقرة: 3] طائفة ثانية على الطائفة الأولى المعنية بقوله: {الذين يؤمنون بالغيب} وهما معًا قسمان للمتقين، فإنه بعد أن أخبر أن القرآن هدى للمتقين الذين آمنوا بعد الشرك وهم العرب من أهل مكة وغيرهم ووصفهم بالذين يؤمنون بالغيب لأنهم لم يكونوا يؤمنون به حين كانوا مشركين، ذَكر فريقًا آخر من المتقين وهم الذين آمنوا بما أنزل من الكتب الإلهية قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ثم آمنوا بمحمد، وهؤلاء هم مؤمنو أهل الكتاب وهم يومئذٍ اليهود الذين كانوا كثيرين في المدينة وما حولها في قريظة والنضير وخيبر مثل عبد الله بن سلام، وبعضُ النصارى مثل صهيب الرومي ودِحية الكلبي، وهم وإن شاركوا مسلمي العرب في الاهتداء بالقرآن والإيمان بالغيب وإقامة الصلاة فإن ذلك كان من صفاتهم قبل مجيء الإسلام فذكرت لهم خصلة أخرى زائدة على ما وُصف به المسلمون الأوَّلون، فالمغايرة بين الفريقين هنا بالعموم والخصوص، ولما كان قصد تخصيصهم بالذكر يستلزم عطفهم وكان العطف بدون تنبيه على أنهم فريق آخر يوهم أن القرآن لا يهدي إلا الذين آمنوا بما أنزل من قبل لأن هذه خاتمة الصفات فهي مرادة فيظن أن الذين آمنوا عن شرك لا حظ لهم من هذا الثناء، وكيف وفيهم مِن خِيرة المؤمنين من الصحابة وهم أشد اتقاءً واهتداءً إذْ لم يكونوا أهل ترقب لبعثة رسول من قبل فاهتداؤهم نشأ عن توفيق رباني، دُفع هذا الإيهام بإعادة الموصول ليؤذِن بأن هؤلاء فريق آخر غير الفريق الذي أجريت عليهم الصفات الثلاث الأول، وبذلك تبين أن المراد بأهل الصفات الثلاث الأوَل هم الذين آمنوا بعد شرك لوجود المقابلة.
ويكون الموصُولاَنِ للعهد، وعلم أن الذين يؤمنون بما أنزل من قبل هم أيضًا ممن يؤمن بالغيب ويقيم الصلاة وينفق لأن ذلك مما أنزل إلى النبيء، وفي التعبير بالمضارع من قوله: {يؤمنون بما أُنزل إليك} من إفادة التجدُّد مثل ما تقدم في نظائره لأن إيمانهم بالقرآن حدَثَ جديدًا، وهذا كله تخصيص لهم بمزية يجب اعتبارها وإن كان التفاضل بعد ذلك بقوة الإيمان ورسوخه وشدة الاهتداء، فأبو بكر وعمر أفضل من دحيَة وعبد الله بن سلام.
والإنزالُ جعل الشيء نازلًا، والنزول الانتقال من علو إلى سُفل وهو حقيقة في انتقال الذوات من علو، ويطلق الإنزال ومادة اشتقاقه بوجه المجاز اللغوي على معان راجعة إلى تشبيه عملٍ بالنزول لاعتبار شرففٍ ورفعةٍ معنوية كما في قوله تعالى: {قد أنزلنا عليكم لباسًا} [الأعراف: 26] وقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] لأن خلق الله وعطاءَه يُجعل كوصول الشيء من جهة عُليا لشرفه، وأما إطلاقه على بلوغ الوصف من الله إلى الأنبياء فهو إما مجاز عقلي بإسناد النزول إلى الوحي تبعًا لنزول المَلك مبلِّغه الذي يتصل بهذا العالَم نازلًا من العالم العلوي قال تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 194، 195] فإن المَلك ملابس للكلام المأمور بتبليغه، وإما مجاز لغوي بتشبيه المعاني التي تُلقى إلى النبيء بشيء وصل من مكان عالٍ، ووجه الشبه هو الارتفاع المعنوي لاسيما إذا كان الوحي كلامًا سَمعه الرسول كالقرآن وكما أُنزل إلى موسى وكما وصفَ النبي صلى الله عليه وسلم بعضَ أحوال الوحي في الحديث الصحيح بقوله: «وأحيانًا يأتيني مثلَ صَلْصَلَة الجَرَس فيفصم عني وقد وَعيت ما قال» وأما رؤيا النوم كرؤيا إبراهيم فلا تسمَّى إنزالًا.
والمراد بما أنزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم المقدار الذي تحقق نزوله من القرآن قبل نزول هذه الآية فإن الثناء على المهتدين إنما يكون بأنهم حصل منهم إيمان بما نزل لا تَوقَّعُ إيمانهم بما سَينزل لأن ذلك لا يحتاج للذكر إذ من المعلوم أن الذي يؤمن بما أُنزل يستمر إيمانه بكل ما يَنزل على الرسول لأن العناد وعدم الاطمئنان إنما يكون في أول الأمر، فإذا زالا بالإيمان أَمِنوا من الارتداد وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب.
فالإيمان بما سينزل في المستقبل حاصل بفحوى الخطاب وهي الدلالة الأخروية فإيمانهم بما سينزل مراد من الكلام وليس مدلولًا للفظ الذي هو للماضي فلا حاجة إلى دعوى تغليب الماضي على المستقبل في قوله تعالى: {بما أنزل} والمراد ما أنزل وما سينزل كما في الكشاف.
وعدي الإنزال بإلى لتضمينه معنى الوصف فالمُنْزَل إليه غاية للنزول والأكثر والأصل أنه يُعدَّى بحرف على لأنه في معنى السقوط كقوله تعالى: {نزل عليك الكتاب بالحق} [آل عمران: 3] وإذا أريد أن الشيء استقر عند المنزل عليه وتمكن منه قال تعالى: {وأنزلنا عليكم المن والسلوى} [البقرة: 57] واختيار إحدى التعديتين تفنن في الكلام.
ثم إن فائدة الإتيان بالموصول هنا دون أن يقال: والذين يؤمنون بك من أهل الكتاب الدلالة بالصلة على أن هؤلاء كانوا آمنوا بما ثبت نزوله من الله على رسلهم دون تخليط بتحريفات صدت قومهم عن الدخول في الإسلام ككون التوراة لا تقبل النسخ وأنه يجئ في آخر الزمان من عقب إسرائيل من يخلص بني إسرائيل من الأَسر والعبودية ونحو ذلك من كل ما لم ينزل في الكتب السابقة، ولكنه من الموضوعات أو من فاسد التأويلات ففيه تعريض بغلاة اليهود والنصارى الذين صدهم غلوهم في دينهم وقولهم على الله غير الحق عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {وبالآخرة هم يوقنون} عطف صفة ثانية وهي ثبوت إيمانهم بالآخرة أي اعتقادهم بحياة ثانية بعد هذه الحياة، وإنما خص هذا الوصف بالذكر عند الثناء عليهم من بين بقية أوصافهم لأنه مِلاَك التقوى والخشية التي جعلوا موصوفين بها لأن هذه الأوصاف كلها جارية على ما أجمله الوصف بالمتقين فإن اليقين بدار الثواب والعقاب هو الذي يوجب الحذر والفكرة فيما ينجي النفس من العقاب وينعمها بالثواب وذلك الذي ساقهم إلى الإيمان بالنبي صلى الله عليه وسلم ولأن هذا الإيقان بالآخرة من مزايا أهل الكتاب من العرب في عهد الجاهلية فإن المشركين لا يوقنون بحياة ثانية فهم دُهريون، وأما ما يحكى عنهم من أنهم كانوا يربطون راحلة الميت عند قبره ويتركونها لا تأكل ولا تشرب حتى الموت ويزعمون أنه إذا حيي يركبها فلا يحشر راجلًا ويسمونها البَلِية فذلك تخليط بين مزاعم الشرك وما يتلقونه عن المتنصرين منهم بدون تأمل. اهـ.